المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين . جورج قرم
المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين
تأليف : جورج قرم
دار الفارابي - بيروت 2007 | 405 صفحات | 7.22 م . ب
تحميل الكتاب
في هذا الكتاب يتعرض "جورج قرم" لموضوع حساس يشغل الساحة حالياً هو: موضوع الدين والحركات المتشددة المنتشرة في بدايات هذا القرن الحادي والعشرين. ومعلوم أن التشدد ليس موجوداً فقط في العالم الإسلامي وإنما أيضاً في العالم البروتستانتي الأميركي الشمالي. وبالتالي فالسؤال المطروح هو التالي: هل دخلنا في حرب حضارات يا ترى كما يقول صموئيل هنتنغتون؟ في الواقع أنه يقصد حرب أديان لأنه يقلّص الحضارة إلى مجرد الدين فقط. ويعتقد بأن الحرب ستكون أساساً بين الغرب والإسلام.
المسألة أكثر تعقيداً من ذلك. ويرى الباحث أننا لا نشهد عودة الدين إلى الساحة العالمية بقدر ما نشهد استخدام الدين من قبل الجماعات المتشددة لأغراض سياسية واقتصادية لا علاقة لها بالدين. والحل الوحيد للخروج من هذا الجو المشحون بالعصبيات الأصولية والطائفية هو العودة إلى فلسفة التنوير الكونية التي لا تفرق بين شخص وآخر على أساس الدين أو الطائفة أو العرق. وإنما تحترم كرامة كل الناس أياً كانوا. ففلسفة التنوير ذات النزعة الإنسانية الواسعة هي وحدها القادرة على إنقاذنا من خطر العصبيات العمياء التي تشغل العالم حالياً.
ولكن لكي يصل المؤلف إلى هذه النتيجة العقلانية المهمة فإنه يخوض مغامرة فكرية طويلة سواء داخل تاريخ الغرب أم داخل التاريخ العربي الإسلامي. وتشهد على ذلك الفصول الممتعة والمتوالية لهذا الكتاب القيم الذي يسلّط الأضواء الفلسفية على المشكلة المطروحة. ويكفي تعداد فصول الكتاب لكي نأخذ فكرة عن مضمونه والمحاور الأساسية التي تعرض لها المفكر العربي اللبناني.
يتألف الكتاب من مقدمة عامة وستة فصول وخاتمة. في المقدمة يطرح جورج قرم التساؤل التالي: كيف حصل وأن هيمنت الظاهرة الدينية على اهتمام العالم بشرقه وغربه؟ في الستينات والسبعينات لم يكن لها وجود تقريباً. كان الناس مشغولين بالأفكار اليسارية والماركسية والتحررية والعالم ثالثية. ولم يكن أحد تقريباً يتحدث عن المشكلة الدينية. أما الآن فقد أصبحت الشغل الشاغل للجميع. وهكذا يحلل الباحث العوامل السياسية والاقتصادية التي أدت إلى ذلك.
فقبل ثلاثين عاماً ما كان أحد يهتم بموضوع الأصوليات الدينية أو التطرف والإرهاب. كان الإرهاب يسارياً آنذاك أو يسارياً متطرفاً بالأحرى، وكانوا يتحدثون عن جماعة العمل المباشر الفرنسية، أو الألوية الحمراء الإيطالية، أو جماعة بيدن بادر الألمانية التي أرعبت الناس. وما كان أحد يتحدث عن القاعدة أو سواها.
وبالتالي فالسؤال المطروح هو التالي: ما هي التحولات التي طرأت على العالم لكي تتغير أموره على هذا النحو؟ وهنا ينخرط جورج قرم في دراسة تاريخية معمقة ومطولة للكشف عن الملابسات السابقة التي أدت إلى الوضع الحالي ولكي يضيء الحاضر عن طريق الماضي والعكس بالعكس.
فالفصل الأول مكرس لموضوع الهوية وشعور الناس في الغرب والشرق بأزمة في الهوية. وهو يتحدث هنا عن التحولات التي طرأت على العقلية الفرنسية والغربية من جراء التشكيك بالثورة الفرنسية وقيمها الليبرالية التحررية. ثم يطرح السؤال التالي: هل هناك عودة إلى الدين في عصر العولمة أم لجوء إليه كمنقذ أو مخلص؟
ثم يفكك جورج قرم العنصرية ونزعة التأكيد على الجوهر والنظرية الكولونيالية ويعتبرها بحق بمثابة الثلاثي الفاسد والمفسد. كما ويتحدث عن أفول القومية بالمعنى الإنساني التحرري في أوروبا وحلول العنصرية المحلية محلها. وبالتالي فهو يشير إلى حصول ردة رجعية في فرنسا في السنوات الأخيرة.
إنها ردة تحاول أن تتراجع عن قيم التنوير والثورة الفرنسية والنظام الجمهوري العلماني الحديث. وأما في الفصل الثاني من الكتاب فيتحدث المفكر اللبناني عن حلول عهد الأمة القومية والطفرات النوعية التي أدت إلى تشكيل الهويات الحديثة. ويحلل هنا الدور الملتبس أو الازدواجي الغامض الذي لعبته الديانة التوحيدية في تشكيل الغرب الحديث.
كما ويتحدث عن الدور الذي لعبه الاستعمار في استخدام الأقليات القومية أو الدينية ضد الامبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط. وهنا يدخل في نقاش معمق عن انتشار فكرة القومية بالمعنى الأوروبي خارج أوروبا.
ثم يخصص فقرة مهمة للموضوع التالي: الانتقال من المرحلة الاستعمارية إلى مرحلة الحرب الباردة وكيف تم استخدام الدين سياسيا آنذاك. ثم يطرح هذا السؤال بخصوص إسرائيل: هل ذكرى المحرقة اليهودية هي عبارة عن عمل تأسيسي أم عودة للدين واستخدامه السياسي؟
ثم يواصل المؤلف بعدئذ تحليله التاريخي للظاهرة عن طريق كتابة فصل ممتع جدا عن الحروب الطائفية أو المذهبية في أوروبا. ويخلع على الفصل الثالث من كتابه العنوان التالي: أركيولوجيا العنف الحديث:
حروب المذاهب المسيحية في أوروبا. وكلمة أركيولوجيا هنا تعني «جذور» وهي من اختراع الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. ولكن العديد من الباحثين أخذوها عنه بعدئذ. فالبحث عن جذور الظاهرة يتطلب منا الحفر الأركيولوجي في الأعماق من أجل الكشف عن هذه الجذور بالذات.
إن هذا الفصل الذي يروي بالتفصيل وبشكل دقيق وموثق قصة الأصوليات المسيحية وصراعها مع بعضها البعض على مدار التاريخ الأوروبي وبخاصة في القرنين السادس عشر والسابع عشر يضيء بشكل كامل قصة الأصوليات الإسلامية الحالية عن طريق المقارنة.
من هنا أهمية كتاب جورج قرم، فهو لا يدرس الأصولية المتعصبة والمنغلقة على ذاتها داخل دين واحد أو تراث واحد وإنما عدة أديان. وهو يشكف هنا عن العنف الذي سببته الأصولية المسيحية في نسختها البروتستانتية وليس فقط الكاثوليكية كما يجري الأمر عادة. فالواقع أن المذهب البروتستانتي تحول أيضا إلى عقيدة جامدة ونهائية وراح يضطهد أتباع المذاهب الأخرى وبخاصة المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني.
ولكن ذلك ينبغي ألا ينسينا أن محاربة الحداثة وممارسة التعصب الأعمى وعدم التسامح، كلها أشياء كانت من اختصاص الفاتيكان والمذهب الكاثوليكي قبل غيره. لا ريب في أن البروتستانتيين مارسوا العنف حيث كانوا أغلبية ولكن بشكل أقل من الكاثوليك. كما أنهم كانوا أقل عداءً للحداثة العلمية والفلسفية من الكاثوليك. هذه حقيقة مثبتة تاريخيا ويعترف بها حتى مفكرو الكاثوليك أو مؤرخوهم.
أما الفصل الرابع فيكرسه المؤلف للتحدث عن انبثاق نظام الحداثة وحلوله محل النظام الأصولي المسيحي ومحاكم التفتيش السيئة الذكر. هذا في حين أن الفصل الخامس مكرس لدراسته الأزمة المزدوجة الدينية والسياسية في مجتمعات الأديان التوحيدية المعاصرة. أما الفصل السادس والأخير فيتحدث عن مستقبل الحرب والسلام طيلة القرن الحادي والعشرين.
هذا في حين أن الخاتمة تجد الحل لكل مشاكل التعصب والأصوليات عن طريق تأسيس ميثاق علماني عالمي جديد. باختصار فإن الكتاب يعالج كل المشاكل الملتهبة دفعة واحدة وبشكل منهجي وعن طريق التبحر العلمي الواسع والعميق.