الزوايا والصوفية والعزابة والاحتلال الفرنسي في الجزائر - pdf
الزوايا والصوفية والعزابة والاحتلال الفرنسي في الجزائر
هذا كتاب قيم وضعه المهتم بشأن التاريخ والحركة الصوفية في الجزائر، سعيد جاب الخير، الكاتب والإعلامي الشهير. حيث يجمع كتابه "أبحاث في التصوف والطرق الصوفية الزوايا والمرجعية الدينية في الجزائر" مجموعة من الأبحاث التي كتبتها في أوقات متفرقة، وقدم بعضها إلى الملتقيات الوطنية والدولية التي حضرها حول موضوع التصوف والطرق الصوفية، الذي يكتسي اليوم أهمية خاصة في مرحلة أصبحت الهويات الثقافية/ الخصوصيات الهوياتية الثقافية، في مهب رياح عولمة تريد أن تلتهم كل شيء في طريقها، لتصطنع هوية كونية لا جذور لها، هوية تريد أن تضع كل شيء في يد الأرقام، ليتحول الإنسان نفسه وقيمه وكل ما يملك من تراث ثقافي تاريخي، إلى مجرد أرقام ليس أكثر
يأتي هذا الكتاب في ظل أوضاع عالمية تضطر الدول على اختلافها إلى فتح النقاش، وبشكل جدي جدا، من أجل القيام بمجموعة من المراجعات تخص ذاتها التاريخية والثقافية. هذا لا يعني إعادة النظر في الأبعاد الثلاثة لهوية هذه الدول وتلك المجتمعات التي أصبحت اليوم في حكم المُجمع عليه على غرار الجزائر بأبعادها: الأمازيغية، الإسلام والعروبة. بل المقصود هو إعادة النظر وفتح النقاش ومراجعة مضامين هذه المكونات الثلاثة. بما يعني طرح أسئلة بعينها، حاول سعيد جاب الخير الإجابة عنها أو على الأقل نفض الغبار عنها، وهي التي صاغها في مقدمة الكتاب: "بأي معنى يمكن أن نعتبر أنفسنا أمازيغ ؟ وما الذي يعنيه انتماؤنا إلى الثقافة والتاريخ الأمازيغيين؟ وما الذي يرتبه علينا هذا الانتماء؟ وبأي معنى يمكننا اليوم، وبعد شلال الدم الذي جرته علينا السلفية الوهابية المستوردة منذ عهد ما سُمي بالإصلاح وامتدادا إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، أن نقول عن أنفسنا: إننا مسلمون؟ ما هو الإسلام الذي نريد أن ننتمي إليه بالضبط؟ هل هو إسلام سيدي بو مدين وسيدي عبد الرحمن وسيدي امحمد بوقبرين وسيدي الهواري وسيدي براهيم بن تومي وسيدي بن بوزيان وأمثالهم من أجدادنا الصوفية "المرابطين" المقاومين أهل النية والصفاء؟ أم هو إسلام ابن باز والعثيمين والألباني والحويني ومن لف لفهم، ممن ينتسبون زورا إلى "أهل السنة والجماعة"، وهم في واقع الحال ليسوا سوى حشوية ومجسمة تكفيريين وإقصائيين؟، ثم ما الذي يعنيه انتماؤنا إلى هذا الإسلام في ظل دستور يقول إن الإسلام هو دين الدولة؟ ألم يأت قومٌ باسم هذا النص، يقولون إن إسلامية الدولة منقوصة وينبغي استكمالها، حيث خرجوا يطالبون بما أطلقوا عليه "الدولة الإسلامية"، ما جر علينا حماما من الدم ؟ أليس ذلك كله بحاجة إلى مراجعة حقيقية ؟ وبأي معنى يمكن أن نعتبر أنفسنا اليوم عربا ؟ أو بعبارة أخرى : بأي معنى نريد/نستطيع اليوم أن نكون عربا، بعد أن فشلت مختلف مشاريع القومية العربية حتى في بلادها الأصلية ؟ بأي معنى نريد اليوم أن نكون عربا إذا علمنا أن كثيرا من إخواننا العرب يستكثرون علينا أن نكون منهم، بل إنهم يصفوننا أحيانا بالفرنسيين، وهم لا يخفون ذلك. هذه الدراسة هي مجموعة أوراق بحثية مطروحة للنقاش، المقصود منها فتح بعض الملفات الثقافية الحساسة المرتبطة بعمق كينونتنا الهوياتية، والتي ظلت مغلقة إلى وقت قريب لأسباب سياسية تاريخية ليس هنا مجال التفصيل فيها، وهي عموما معروفة. أتصور أنه آن الأوان اليوم، لفتح هذا النقاش بكل ما يحمله من أبعاد، من أجل توضيح معالم الرؤية للأجيال الجديدة، حتى تتمكن من نفض الغبار عن تاريخنا الثقافي والرسو على هوية واضحة الخطوط، ومن ثم الانطلاق نحو المستقبل برؤية صافية وخطى ثابتة."
جاء كتاب " أبحاث في التصوف والطرق الصوفية الزوايا والمرجعية الدينية في الجزائر" في سبعة محاور هي: المرجعية الدينية الصوفية في الجزائر، الجذور، الواقع والآفاق، علاقة التصوف بالشعر الشعبي (الملحون) في الجزائر، ابن مسايب نموذجا وعلاقة التصوف والطرق الصوفية بالثقافة الشعبية في الجزائر، مسألة السماع بين الصوفية والفقهاء، وأيضا محورا عن القطب الأكبر عبد السلام بن مشيش، حياته وعصره، ومرجعية الذكر في الطريقة العيساوية وتراث "قناوة" بين التعليم الصوفي والطقس الشعبي.
في نقد مؤسسة الخلافة: الوهم والحقيقة
يؤكد الكاتب على أن السلطة السياسية التاريخية/مؤسسة الخلافة عملت منذ وقت مبكر من تاريخ الإسلام، على احتواء المؤسسة الدينية ممثلة في سلطة الفقهاء الذين عملوا على تبرير مسلكية الخليفة وتسخير النص الديني لإضفاء الشرعية على النظام السياسي وأحكامه التشريعية والقضائية. الدلائل في هذا المجال كثيرة جدا، وبإمكاننا تتبع هذا الاتجاه المبكر في تاريخ الإسلام من خلال النصوص والحوادث التالية على سبيل المثال لا الحصر : في حوادث سنه 82 هجرية، قال عبد الرحمن بن يزيد : قدم علينا سليمان بن عبد الملك حاجا سنة اثنين وثمانين، وهو ولي عهد. فمر بالمدينة فدخل عليه الناس، فسلموا عليه. وركب إلى مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم التي صلى فيها، وحيث أصيب أصحابه بأحد، ومعه أبان بن عثمان، وعمرو بن عثمان، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي أحمد، فأتوا به قباء، ومسجد الفضيخ، ومشربة أم إبراهيم وأحد، وكل ذلك يسألهم، ويخبرونه عما كان. ثم أمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه، فقال أبان : هي عندي، قد أخذتها مُصححة ممن أثق به. فأمر بنسخها وألقى بها إلى عشرة من الكتاب فكتبوها في رق. فلما صارت إليه نظر، فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين، وذكر الأنصار في بدر، فقال : ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل. فإما أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، وإما أن يكونوا ليس هكذا. فقال أبان بن عثمان : أيها الأمير، لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم (يقصد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه) من خذلانه، أن نقول بالحق، هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا. قال : ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين، لعله يُخالفه. فإمر بذلك الكتاب فحُرق. وقال : أسأل أمير المؤمنين إذا رجعت، فإن يوافقه، فما أيسر نسخه. فرجع سليمان بن عبد الملك، فأخبر أباه بالذي كان من قول أبان. فقال عبد الملك : وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل ؟ تعرف (بضم التاء وفتح العين وكسر الراء وتشديدها : من التعريف) أهل الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها ؟ قال سليمان : فلذلك يا أمير المؤمنين، أمرت بتخريق ما كنت نسخته، حتى أستطلع رأي أمير المؤمنين. فصوب رأيه. (حرق الكتب في التراث العربي : 31-32، نقلا عن كتاب الموفقيات للزبير بن بكار، ص 275) هذا التحريف المغرض والتوجيه الرسمي للنص الديني والمعرفة الدينية، مارسته مؤسسة الخلافة على طول التاريخ العربي الإسلامي، بالتواطؤ مع المؤسسة الفقهية وبشتى الأساليب والوسائل. والهدف من ذلك هو إخضاع النص الديني والمعرفة الدينية، للأيديولوجية الرسمية لمؤسسة الخلافة أو ثنائية (الخليفة/الفقيه). حيث كانت السلطة تخاف أن تتأثر عامة الشعب بكتب وأفكار المعارضة التي كان الفقهاء عموما يكفرونها ويصنفونها في خانة "الإلحاد والزندقة".
الخليفة ودوره في توجيه النص الديني أو تحالف الفقيه والخليفة :
قال الشافعي :"أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق (بكسر الراء أي فضة) بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذا، فقال معاوية : ما أرى بهذا بأسا. فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية، أخبره عن رسول الله ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض". (الرسالة للشافعي بتحقيق أحمد شاكر، ص 446) قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "الرسالة" : "الحديث صحيح، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة إلا النسائي. وقال الزرقاني في شرح الموطأ (ج3 ص 115) : قال أبو عمر : لا أعلم أن هذه القصة عرضت لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من هذا الوجه، وإنما هي محفوظة لمعاوية مع عبادة بن الصامت، والطرق متواترة بذلك عنهما. انتهى والحديث صحيح وإن لم يرد من وجه آخر، فهو من الأفراد الصحيحة.. ولابن عبد البر هنا كلام جيد في هجر المبتدعين، انظره في شرح السيوطي على الموطأ". (المصدر السابق). وها هي رواية عبادة بن الصامت كما وردت في كتاب "سير أعلام النبلاء" ، قال الذهبي : "عن عبادة بن الصامت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الذهب بالذهب مثلا بمثل، يدا بيد، والشعير بالشعير مثلا بمثل، يدا بيد، والتمر بالتمر، مثلا بمثل، يدا بيد، حتى ذكر الملح... فقال معاوية : إن هذا لا يقول شيئا. فقال عبادة : أي والله ما أبالي أن لا أكون بأرضكم هذه" (سير أعلام النبلاء، 6/178) جاء في تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط وحسين الأسد :"أخرجه النسائي 7/277، في البيوع باب بيع الشعير بالشعير، وأخرجه مسلم برقم 1587 في المساقاة باب الصرف، من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة قال : كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث فجلست إليهم فقلت له : حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت. قال : نعم، غزونا غزاة، وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك (أي فعلوا مثل فعل معاوية)، فبلغ عبادة بن الصامت فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى. فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية، فقام خطيبا فقال : ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه ؟ فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال : لنُحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كره معاوية (أو قال : وإن رغم معاوية) ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء. وأخرجه بنحوه أبو داود برقم 3349 والترمذي برقم 1240 والنسائي 7/ 274 – 275، وابن ماجه برقم 2254 ، والشافعي 2/ 177- 178" (السابق). هذه الحادثة كما يظهر من التعاليق السابقة، صحيحة عن أبي الدرداء ومتواترة عن عبادة بن الصامت كما قال الحافظ ابن عبد البر، فلا مجال للتشكيك فيها. مما سبق، يتبين أن السلطة السياسية/ مؤسسة الخلافة، كانت تكره أن يُحدث الصحابة بما سمعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يتعارض مع أيديولوجية ورؤى ومشاريع السلطة. كما أن كثيرا من الفقهاء عملوا على تبرير هذه المسلكية السلطوية سعيا منهم إلى إبعاد الشبهة عن معاوية بن أبي سفيان وغيره، على أساس نظرية عدالة الصحابة الشهيرة. كما أن كثيرا من الفقهاء سعوا إلى رد أو تأويل نصوص أخرى للغرض نفسه، وبذلك أسسوا نصوصا تأويلية (حتى لا نقول تحريفية) موازية للنصوص الأصلية، أطلق عليها بعض الباحثين تسمية "النص الثاني"، هذا النص الذي قامت عليه المؤسسة الدينية/ سلطة الفقيه التي منها تستمد مؤسسة الخلافة شرعيتها الدينية والسياسية.