الديمقراطية ونقادها . روبرت دال
الديمقراطية ونقادها
روبرت دال
دار الفارس للنشر - عمّان 2005 | 610 صفحات | 11.21 م . ب
إن التحولات السياسية التي عرفتها معظم دول العالم، منذ بداية القرن العشرين، أظهرت اختفاء جل الأنظمة البديلة عن النظام الديمقراطي، وجميع البدائل للديمقراطية؛ فالفاشية، والنازية، والشيوعية، والديكتاتوريات العسكرية، اختفت كلها من الواقع، باستثناء بعض الأنظمة الديكتاتورية، التي استمرت تحت قناع الديمقراطية الزائفة.
غير أنه، وعلى الرغم من المعارك التي كسبتها الديمقراطية؛ فإن الحكومات الديمقراطية موجودة، فقط، في أقل من نصف بلدان العالم.
انطلاقًا من هذه الملاحظة الواقعية، واعتمادًا على خلاصاته التنظيرية، التي راكمها خلال أكثر من 60 سنة، من البحث والتدريس في هذا الموضوع ونقاشاته، وتجربته المتميزة، باعتباره نشر العديد من الكتب والمقالات في هذا المجال، وتولى رئاسة الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية؛ قدم روبرت دال إحاطة شمولية عميقة لموضوع جد معقد، تطرح إشكالياته صعوبات أمام المختصين قبل المهتمين، تبدأ بتاريخ الديمقراطية، وتنتهي بالظروف المواتية الديمقراطية، مرورًا بثوابتها المثالية، وواقعها في الدول العريقة ديمقراطيًّا، والمتحولة حديثًا إلى الديمقراطية، والمؤسسات السياسية الضرورية لها، كما تركز على الوحدات الصغرى والكبرى، وتستحضر نماذج وحالات تاريخية، يغفلها الكثير من الدراسات في هذا المجال.
وإذا كان الكثير من المؤلفين، قد اهتموا بفكرة أصول الديمقراطية، واستفاضت العديد من المؤلفات في هذا الإطار؛ فإن روبرت دال، يسجل، من خلال تحليله، تميزًا واضحًا، قلما يتوفر في المراجع الكلاسيكية عن الديمقراطية، ومن أهم أوجه هذا التميز، يمكن الإشارة إلى ما يلي:
- نفي التطور التدريجي للديمقراطية؛ فإذا كانت العديد من المؤلفات، تشير إلى أن هذه الأخيرة، قد ظهرت منذ 2500 سنة في اليونان القديمة، وتطورت تدريجيًّا، وانتشرت إلى أن بلغت الصورة الحالية؛ فإن المؤلف يؤكد أن الأنظمة الشعبية، في اليونان وروما، عرفت انحطاطًا وتلاشيًا بعد فترة من الازدهار.
- تأكيده على الابتكارات المتعددة للديمقراطية، ذلك أن، هذه الأخيرة، لم تبتكر مرة واحدة؛ بل ظهرت في أزمنة وأمكنة مختلفة، "يبدو الأمر وكأن الديمقراطية قد ابتكرت غير مرة، وفي أكثر من مكان واحد"؛ حيث ظهرت ظروف مناسبة معينة، ساهمت في الميل نحو إنشاء نظام ديمقراطي، وفي إطار نشأة الديمقراطية، يذهب روبرت دال، إلى أن أول شكل ظهر في هذا الإطار: هو الديمقراطية البدائية؛ التي ظهرت بفعل تبني منطق المساواة، وهي ديمقراطية فطرية، ولكنها اختفت بسبب تضافر عوامل عدة، أهمها؛ الاستقرار لفترات زمنية طويلة في مناطق ثابتة.
وفي عام 500 قبل الميلاد، عادت بعض الظروف المواتية للديمقراطية إلى الظهور في أماكن عدة، وتم إعادة ابتكار الديمقراطية البدائية، ولكن بصورة أكثر تقدمًا.
أهم هذه التطورات ظهرت في أوربا؛ في سواحل البحر الأبيض المتوسط، وظهرت صيغ أخرى في شمال أوربا.
1- منطقة البحر الأبيض المتوسط:
تتمثل ابتكارات الديمقراطية، بصيغة متطورة، في هذه المنطقة في ثلاث تجارب:
- اليونان: التي عرفت ظهور المدينة- الدولة، أشهرها؛ أثينا: التي عرفت نظام حكم شعبي جد معقد، قائم، أساسًا، على القرعة لانتخاب المواطنين، لشغل المناصب العامة، استمر قرنين من الزمن تقريبًا، كما عرفت صياغة كلمة الديمقراطية على يد فلاسفتها، وانتشر هذا النظام في مدن يونانية أخرى.
على الرغم من أن قواعد الديمقراطية اليونانية، مبتكرة ومتميزة، إلّا أنها لقيت تجاهلًا ورفضًا قطعيًّا، في الأنظمة الديمقراطية التمثيلية الحديثة.
- روما: عرفت تأسيس الحكومة الشعبية، وأطلق عليها الرومان، اسم: الجمهورية (République)، وشهدت، في البداية، سيطرة الأرستقراطيين على إدارتها، ثم بعد نضال طويل، تمكن الشعب من الحصول على حق المشاركة في هذه الإدارة، الذي ظل محصورًا في الرجال دون النساء، كما كان الشأن في أثينا.
غير أن مشاركة عامة الشعب عمليًّا، كانت صعبة، بحكم تواجد مكان اجتماعات المجالس في قلب روما، وهو ما يعني؛ إقصاء أعداد كبيرة من المواطنين من المشاركة، لاسيما المتواجدين بعيدًا عن المركز، وعلى الرغم من استمرار الجمهورية الرومانية لفترة طويلة، أكثر من أثينا، إلا أنها تقوضت وانحلت، بسبب؛ الاضطرابات الداخلية، والحروب، والفساد، والنزعة العسكرية في حوالي عام 130 قبل الميلاد.
- إيطاليا: عادت أنظمة الحكم الشعبي إلى الظهور في عدد من مدن شمالي إيطاليا، في حوالي عام 1100م؛ حيث تطورت في مدن- دول صغيرة نسبيًا، غير أن المشاركة ظلت محصورة في عائلات الطبقات العليا، لاسيما النبلاء، وكبار ملاكي الأراضي، ولم تنتزع الطبقة الوسطى حق المشاركة، إلا بعد كفاح طويل.
واستمرت هذه الجمهوريات، مثل؛ فلورنسا والبندقية، أزيد من قرنين من الزمان، لكن في منتصف القرن الرابع عشر، اندحرت الحكومات الجمهورية في بعض المدن الرئيسية، بسبب؛ التراجع الاقتصادي، والفساد، وحكم الأقلية، والغزو، واستيلاء الحكام الاستبداديين على السلطة، وظهور الدولة القومية.
يلاحظ أن الابتكارات الديمقراطية في هذه المناطق الثلاث، قد افتقدت الخصائص الأساسية للنظام التمثيلي الحديث، كما افتقدت حكومة قومية فعالة، وغياب ثلاثة ثوابت مؤسساتية أساسية، متمثلة في؛ برلمان قومي: مؤلف من نواب منتخبين، وحكومات محلية منتخبة، وحكومة قومية.
2- شمال أوربا:
إن الثوابت السياسية الأساسية التي افتقدتها اليونان، وروما، وإيطاليا، نشأت بداية في بريطانيا، وإسكندنافيا، والأراضي المنخفضة، وسويسرا، وفي أماكن أخرى شمالي البحر الأبيض المتوسط، وتتمثل هذه الثوابت في ما يلي:
- المجالس المحلية:
برزت، بين عامي 600 و1000، في مناطق من إسكندنافيا، مثل: النرويج ومناطق أخرى، عدة مجالس محلية (تينغ) Thing لدى الفايكنغ؛ حيث كان يجتمع الرجال الأحرار لتسوية الخلافات، ومناقشة القوانين، ورفض أو قبول مقترحًا لتغيير الدين، ووصل الأمر إلى حد انتخاب ملك، أو التصديق على انتخابه.
لم تقم تجربة الفايكنغ على معرفة مسبقة بالممارسات السياسية الديمقراطية، والجمهوريات التي عرفها اليونان والرومان؛ بل كونوا مجالس خاصة بهم، انطلاقًا من منطق المساواة، الذي طبقوه على الرجال الأحرار، ولكن هذه التجربة اعترضتها نواقص متعلقة بحرمان العبيد والنساء.
- البرلمانات:
بسبب هجرة الفايكنغ، ورحلاتهم نحو الغرب، وبالضبط إلى أيسلندا، نقلوا معهم تجربتهم في المجالس (تينغ) إلى هذه المناطق، وأكثر من ذلك؛ فقد أنشأوا في عام 930م، نوعًا من المجالس العليا (Althing)، أو الجمعية الوطنية، وقد بقيت هذه المجالس مصدرًا للقانون الآيسلندي، على مدى ثلاثة قرون، إلى غاية خضوع الآيسلنديين على يد النرويج.
وفي هذا الوقت، كذلك، نشأت مجالس إقليمية في النرويج، والدنمارك، والسويد، سرعان ما تطورت لاحقًا إلى مجالس وطنية، كما حدث في آيسلندا، تركت أثرًا مهمًّا في التطورات اللاحقة التي عرفتها هذه البلدان، على الرغم من تقليص أهمية هذه المجالس الوطنية، بفعل تدخل الملك وبيروقراطيته؛ ففي السويد، مثلًا، أدت الممارسة، إلى نشوء البرلمان التمثيلي الحديث، على أنقاض المجالس الموروثة عن حقبة الفايكنغ، في القرن الخامس عشر.
أما في الأراضي المنخفضة، (هولندا والفلاندرز)؛ فإن عوامل مختلفة ساهمت في نشوء البرلمانات، ذلك أن التوسع في الإنتاج والتجارة، وازدياد الموارد المالية، ساهم في تكون طبقات متوسطة مدنية، لم يتمكن الحكام من تجاهلها؛ حيث سعوا إلى الحصول على مداخيل بشكل مستمر، وإلى تطبيق ضرائب عليها، مما فرض على الحكام دعوة ممثلين عن المدن، والبلدات، وأهم الطبقات الاجتماعية، إلى عقد اجتماعات وهيئات للحصول على موافقتهم.
وعلى الرغم من أن هذه الهيئات، لم تتطور إلى هيئات تشريعية وطنية، إلا أنها خلقت أعرافًا وممارسات، ساهمت في التطور نحو خلق برلمانات وطنية.
وفي بريطانيا؛ نشأ البرلمان في القرون الوسطى، نتيجة تطور عشوائي، أكثر مما كان مخططًا له؛ إذ تطور الأمر من اجتماعات، تعقد بين فترة وأخرى، تحت ضغط الحاجة بين عامي 1272م- 1307م، إلى مؤسسة شبه دائمة.
وقد أدت التطورات اللاحقة، في القرن الثامن عشر، إلى ظهور نظام دستوري، يجعل الملك والبرلمان مقيدين بصلاحيات كليهما معًا، ووجود توازن بين سلطة الأرستقراطية الوراثية في مجلس الشيوخ، وسلطة الشعب في مجلس العموم، ووجود قضاة مستقلين عن الملك والبرلمان على حد سواء.
فالنظام البريطاني، خلال القرن الثامن عشر، القائم على توازن بين القوى الاجتماعية، والفصل بين السلطات، لقي إعجابًا واسعًا في أوربا وأمريكا الشمالية.
إن الأفكار والممارسات السياسية، التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر في أوربا، أصبحت من الثوابت الرئيسية للديمقراطية، التي ظهرت في وقت لاحق؛ فمنطق المساواة حفز على إنشاء المجالس المحلية في أسكندنافيا، والفلاندرز والأراضي المنخفضة، وسويسرا، وبريطانيا، كما أن فكرة حاجة الحكومة إلى موافقة الخاضعين لها، تطورت إلى ظهور هيئات تمثيلية منتخبة، أو برلمانات على عدة مستويات؛ محلية وقومية، ولربما مناطقية، أو إقليمية، أو مستويات أخرى، تتوسط هذه المستويات.
لكن بناء الأنظمة الديمقراطية، استغرق وقتًا طويلًا، وظلت هذه الأعراف والممارسات، ناقصة في أجزاء مهمة منها؛ حيث ظهرت في البلدان الواعدة فروقات، ما بين حقوق وواجبات، وما بين عبيد وأحرار، وما بين رجال ونساء، وما بين أثرياء وفقراء، وما بين الإقطاعيين والمستأجرين، وما بين الحرفيين المهرة وأصحاب الحرف، وما بين النبلاء والعامة، وما بين الأسر المالكة ورعاياهم. وكذلك، ما بين سلطة الملك، ونواب الشعب، إضافة إلى أن أفكار ومعتقدات الديمقراطية، لم تكن مفهومة جيدًا، وغير منتشرة كثيرًا، حتى القرن الثامن عشر، وما بعده.